الأساطير الكبرى في الإدارة و الاقتصاد للأستاذ: بيزيد يوسف
:: الفئة الأولى :: الفئة الثانية :: مقالات
صفحة 1 من اصل 1
الأساطير الكبرى في الإدارة و الاقتصاد للأستاذ: بيزيد يوسف
غالبا ما توجه الاتهامات للإدارة بسؤ التسيير و التنظيم، و قد يبدو للوهلة الأولى و في الغالب أن هذه الاتهامات صحيحة ، لأن الإدارة تشكل الآلية الفاعلة للتنفــــــــيذ و التنظيم و لها تداعيات و آثار على الاقتصاد بصورة مباشرة ، بيد أنه من جانب آخر و في الحقيقة أن بعض المسئولين في الإدارة هم السبب الرئيسي للفساد و سؤ التسيير ، و من هنا يبدو أن هذه الاتهامات للإدارة هي مجرد أساطير ، و يبدو القول بفرضية تسبب الإدارة في الفساد هو مجرد وهم و فرضية خاطئة ، و الفرضية الأقرب إلى الصواب هي، مدى تفعيل الإدارة في تحسين الآليات الاقتصادية ، و خاصة أنها أصبحت تشكل عبئا حقيقيا على اقتصاديات هذه البلدان ؟. وبدراسة اقتصادية متأنية يتضح أن القضاء على الفساد ممكنا و أن الاعتقاد بأن المشكل ينطلق من آليات التسيير هو خطأ شائع ، و لكن في البدء لابد لنا من التعرف على هذه الأساطير .
خمس أساطير كبرى في الإدارة و الاقتصاد .
قبل الخوض في تفاصيل هذه الأساطير نبدأ في التعرف على مدلولات الأسطورة من حيث المصطلح و المفهوم ، فقد جاء في المعجم الفلسفي للدكتور جميل صليبا : "الأسطورة في اللغة هي الحديث الذي لا أصل له ، يقال : إن هذا إلا أساطير الأولين .
و للأسطورة عدة معان و هي :
1- الأسطورة قصة خيالية ذات أصل شعبي تمثل فيها قوى الطبيعة بأشخاص يكون لأفعالهـــم و مغامراتهم معان رمزية ، كالأساطير اليونانية التي تفسر حدوث ظواهر الكون و الطبيعة بتأثير آلهة متعددة – أو هي حديث خرافي يفسر معطيات الواقع الفعلي ، و أسطورة الجنة المفقودة .
2- الأسطورة هي الصورة الشعرية الروائية التي تعبر عن المذاهب الفلسفية بأسلوب رمزي يختلط فيه الوهم بالحقيقة ...
3- و تطلق الأسطورة أيضا على صورة المستقبل الوهمي الذي يعبر عن عواطف النــــــــاس و ينفع في حملهم على أداء الفعل ...
و قصارى القول : أن الأساطير تتضمن وصفا لأفعال الآلهة ، أو للحوادث الخارقة ، و هي تختلف باختلاف الأمم ، فلكل أمة أساطيرها ، و لكل شعب خرافاته الموضوعة للتعليم أو التسلية ، وقد قيل أن الأسطورة هي التعبير عن الحقيقة بلغة الرمز المجاز ".
فما هي أساطير الإدارة و الاقتصاد إذا :
- الأسطورة 1: أن الإدارة و الاقتصاد يرتبطان بالفساد :
- التنظيم و الإدارة ليست فقط مجرد هياكل إنما هي تقاليد و مؤسسات تمارس بها السلطة في بلد ما من أجل الصالح العام ، ويشمل ذلك العملية التي يتم بموجبها اختيار القائمين على السلطة و مراقبتهم و استبدالهم – البعد السياسي – و قدرة الحكومة على إدارة مواردها بفاعلية و تنفيذ سياسات سليمة – البعد الاقتصادي- و احترام المواطنين و الدولة لمؤسسات البلد - البعد المؤسسي - ومن هنا تكون الإدارة الراشدة هي الأقرب إلى خدمة الصالح العام و لكن التحدي الكبير الذي يواجهها هو الفساد و الذي يعرّف على أنه إساءة استعمال المنصب العام لتحقيق كسب خــــــاص و استغلال المسئولية أو النفوذ لتحقيق مكاسب خاصة و من هنا أصبحت مؤشرات الفساد تتزايد من يوم لآخر في البلدان الأكثر تخلفا مقارنة بالدول المتقدمة ، و قد قامت الهيئات المختصة و منها البنك العالمي بقياس مؤشرات لمعرفة مدى استفحال الفساد في مجموعة كبيرة من دول العالم و هذه المقاييس قابلة للمقارنة دوليا و تقوم على معايير موضوعية و قد شملت قرابة 200 دولة ، بناء على أكثر من 250 متغيرا تم الحصول عليها من مؤسسات و أجهزة مختلفة و من أهم هذه المؤشرات : القدرة على التعبير عن الرأي ، و الخضوع للمساءلة ، و الاستقرار السياسي ، و غياب أعمال العنف و الإرهاب الكبرى ، فعالية الحكومة ، الجودة التنظيمية ، سيادة القانون ، الحد من الفساد .
لكن في المقابل فإن عمليات القياس الدقيقة تعترضها معضلتان رئيسيتان ، تتمثل الأولى في الدقة و المصداقية في جمع المعلومات و التقارير التي تقدمها الأجهزة المعتمدة و ذلك وصولا إلى بناء نتائج حقيقية ، فقد تتستر بعض الدوائر عن الأرقام الحقيقية لأنها متورطة في الفساد أو أنها تقدم معلومات منقوصة أو مغلوطة .
و المعضلة الثانية تتعلق بجدية بعض المصالح في إصلاح الإدارة و التنظيم الذي قد لا يأخذ مأخذ الجد لأنه يقلل من نفوذ بعض الفئات المستفيدة من هذه الوضعيات .
تأخذ هذه المؤشرات كمعايير من قبل البنك الدولي لمراقبة الأداء و إجراء التقييمات القطرية على مستوى الدول .
و إذا كان ارتباط تحسين الأداء و مكاسب التنمية مرتبط بشكل مباشر بتطوير أساليــب الإدارة و التنظيم و خاصة مع هذا الزخم الهائل من المعلوماتية و التكنولوجيات ، و شبكات المعلومات و وصولا إلى الإدارات و الحكومات الالكترونية في الدول المتقدمة ، و يعتمد هذا أساسا على قاعدة بيانات قوية تتوفر على زخم هائل من المعطيات الصحيحة ، و قد أثبتت هذه الآلية نجاعتها في قياس تقدم بعض البلدان في تحسين الاداءات الأمر الذي أدى إلى رفع غينيا الاستوائية إلى مستوى أوغندا ، و أوغندا إلى مستوى ليتوانيا و ليتوانيا إلى مستوى البرتغال ، و البرتغال إلى مستوى فنلندا . و هذا يدلل على نجاح مستويات هذه القياسات في تحسين مستويات الإدارة و التنمية .
و يرتبط ذلك بشكل آخر بالاقتصاد الجزئي و الكلي للدول من تحسين مستويات الدخـــــــــــول و المنافسة و التوزيع ..و إذا كانت مظاهر الفساد تتراوح بين الرشاوى و الاختلاســــــــــــات و التلاعبات ، و تعتبر قضية الفساد التي مست كل قطاعات و أجهزة الإدارة المالية فيما عرف بقضية آل خليفة و التي أدت إلى التلاعب بملايير الدولارات ، على حساب الاقتصاد الوطنـــــي و عجلة التنمية ، مثالا حيا ، بل استفحلت الظاهرة إلى حد اعتبار الرشوة حقا مقننا للإدارة في بعض الدول و يرقى إلى – البقشيش – الخاص . و أضحت قضايا الفساد المالي من القضايا المعتادة و التي لا تستطيع القوانين التصدي لها .
الأسطورة 2 :-أن تحسين التنظيم و الإدارة حكر على الدول المتقدمة .
إذا كانت المقارنة انطلاقا من مجموعة من المعايير ، أو على الأقل معيار الدخل القومي يتبين البون الشاسع و الفارق الضارب بين دولة مثل الولايات المتحدة التي يتجاوز دخلها القومي 9 آلاف ملايير دولار ، و دولة مثل مالي التي تصل ربما إلى 2 مليار دولار حسب إحصائيات العام 2005 .يظهر الفارق في ضخامة الاقتصاد بين الدولتين ، فإن تحسين الإدارات لا ينطلق من هذا القياس . و خاصة أن العلاقة السببية بين تطور التنمية و تطوير أساليب الإدارة قد أثبت نجاعته في الكثير من البلدان و ذلك من خلال عينات ، في العام 1996 ، انطلاقا من مجموعة من المؤشرات و منها : القدرة على التعبير عن الرأي – و الخضوع للمساءلة - في بلدان مثل البوسنة ، و كرواتيا ، و غانا ، و اندونيسيا ، و صربيا و سيراليون إضافة إلى بعض البلدان في إفريقيا قد أثبتت تقدما و في المقابل فإن بلدان مثل ساحل العاج و نيـــــــــــــــبال ، و زيمبابوي تأخرت كثيرا.
و الحقيقة أن ارتباط هذه المؤشرات بمؤشرات الديمقراطية و العقلانية و تفعيل المجتمع المدني ، و الحريات المدنية و سيادة القانون هو ارتباط مباشر و وثيق بدور الإدارة في تنظيم الحياة المؤسساتية . و العمل على إنجاح التنمية و المشاريع الفعالة في الاقتصاد .
فإذا كانت بلدان مثلما هي بلدان أمريكا الشمالية و الاتحاد الأوربي استطاعت في ضوء الاقتصاد الحر أن تحقق نموا و تطورا كبيرا عبر عقود زمنية ، فإن ظهور البيروقراطية السلبية كان أكثر استفحالا في الدول الاشتراكية مما عرقل تطور الإدارة و التنظيم و بالتالي انعكس سلبا على الاقتصاديات .
الأسطورة 3 : -محاربة الفساد بمحاربة الفساد . تتوفر مجموعة من الآليات و الوسائل المنتهجة لمحاربة الفساد والحقيقة أن الكثير من المؤسسات و مراكز الدراسات و الهيئات تشجع هذا الإجراء ، و تعمل على سن التشريعات و القوانين و إقامة لجان المحاسبة و الرقابة و شن الحملات المتتالية لمحاربة الفساد ، و لكن في المقابل لم تحقق مثل هذه النماذج تحسنا ملحوظا انطلاقا من هذه الوصفات ، و التي تنطلق من الحرب و ليس من علاج الظاهرة ، لأن استعمال هذا التكتيك أدى إلى تغيير الفئات المستفيدة من الوضع المتأزم إلى تغيير خــــططها ، و خاصة أن الكثير من هذه البلدان بها بعض النخب الحاكمة و رجالات الدولة و الجنرالات الذين استفادوا و اغتنوا في ظل هذا الوضع و هو يخدمهم بالدرجة الأولى ، و بإمكانهم التلاعب على القانون ، بل تقنين الفساد في حد ذاته . فلا تزال حسابات الكثير منهم في بنوك الخارج تثير الرهبة في القلوب بحجم الأرقام و ما وصل إليه الفساد في هذه البلدان بينما لا تزال بلدانهم تعاني الفقر و التخلف و المديونية الخانقة ، كما أن الكثير من الشركات المتعددة الجنسيات تقدم الرشاوى للكثير من المؤسسات و الإدارات لإنجاح صفقاتها و تعاملاتها مما جعل الفساد على أعلى المستويات في هذه البلدان .
و لذلك فإن العمل على تحسين الأداء الإداري و رسم إستراتيجية فاعلة للتنظيم و الإدارة انطلاقا من استراتيجيات ثقافية و اجتماعية و سياسية تؤصل لمؤسسات ديمقراطية و عقلانية فاعلة تقضي على الفساد من جذوره و تعالج الأزمة بمختلف مظاهرها و تكون الحاجة أكثر إلى إصلاحات في المنهجيات الإدارية بالدرجة الأولى ، و حتى لا تتحول محاربة الفساد إلى تصفيات حسابات سياسية مرتبطة بالآنية ، لا بالمراحل المستقبلية الآتية و تتقلب بتقلبات الظروف . غير مبنية على أسس منهجية دقيقة و مدروسة .
- الأسطورة 4 :- القطاع العام المتسبب الرئيسي في الفساد : لا يزال القطاع العام في الكثير من البلدان المتخلفة ينتهج الأساليب القديمة في التسيير و الإدارة و لا تزال البيروقراطية هي أساس العمل فيها ، ففي حديث لأحد خبراء صندوق النقد الدولي يروي قصته مع الإدارة في دولته البيرو ، عند شروعه في انجاز مشروع ورشة ، كان قد مرّ بالعديد من المؤسســــــــات و الإدارات و قطع الأميال العديدة لإتمام الإجراءات للحصول على إذن انجاز المشروع الذي قد لا ينجز في النهاية ، و بالمقابل يقارن تجربته للحصول على نفس المشروع في الولايات المتحدة و الذي لم يكلفه إلا المرور على إدارتين و بعض الوقت و الكثير من التشجيعات لإنجاح المشروع و الذي فشل في البيرو و لكنه نجح في الولايات المتحدة ، و قد أصبح هذا الاقتصادي فيما بعد من أهم الاقتصاديين في المؤسسات الدولية ، و من أهم المستشارين الاقتصاديين للحكومة الأمريكية ، و الحقيقة أن أخذ هذه العينة يدلل على مدى تسبب القطاعات العامة في الكثير من البلدان العالم ثالثية في فشل التنمية الاقتصادية فيها مقابل تحقيق القطاعات الخاصة لتحسن في مستويات الإدارة ، و عادة ما تستحوذ بعض الفئات المستفيدة من القطاع العام على مقاليد الإدارة لتحقيق مصالحها الخاصة و لو كان على حساب التنمية العامة و المصالح العامة للدولة مما يدلل على أن الخلل ليس في القطاع العام في حد ذاته إنما من المستفيدين من الفساد فيه و تكريس سلطتهم .
الأسطورة 5 :- الدولة عاجزة على تحسين الادارة و التسيير : أثبتت بعض التجارب أن الدول غير قادرة على تحقيق تطور في مجالات الإدارة من حيث التدخلات ، و ذلك أن هذا التطور لا يتم بمنأى عن المجتمع و السياسة ، و لذا فإن رسم استراتيجيات ثقافية و اجتماعية و تفعيل الأدوار البنيوية و الوظيفية للدولة يكون أقرب إلى تحقيق هذا التطور ، لقد استطاعت بلدان في جنوب شرق آسيا انطلاقا من تجربة الهندسة العكسية في الصناعة إلى تحقيق فوائض مالـــية و إقامة بنى تحتية و فوقية لاقتصادياتها أن تحقق نموا متزايدا و تطورا مطردا في الاقتــــــصاد و السياسة و منها كوريا الجنوبية و سنغافورة و هونغ كونغ و غيرها من الدول التي خلقت قاعدة صناعية قوية و إدارة محكمة تقوم بعمليات التنظيم الفاعلة و الواسعة ..
و تنطلق عمليات الإصلاح من الشفافية و الفعالية مقترنة ببقية المؤشرات من حريات التعــبير و الديمقراطية و حقوق المرأة و الإصلاحات و التي تحقق تقدما متوازيا مع تطــــــــور الإدارة و التنظيم ، فالعملية كل متكامل ينطلق من الجزء إلى الكل و من الكل إلى الجزء في مستويات عمودية و أفقية من التنمية الثقافية و الاجتماعية و السياسية إلى التنمية الاقتصادية .
في المقابل فإن دور المؤسسات الدولية يكون فاعلا في عمليات التنمية نظرا لدخول العالم لعصر العولمة و ضرورة شعور الحكومات بنوع من الالتزامات الدولية و الرقابة من قبل هذه المؤسسات و الهيئات ، و خاصة إذا ما تكفلت بعمليات الدعم و المشاركة بالخبرات لإصلاح المؤسسات و الإدارات المستهدفة من حيث الجانب العملي و ليس النظري فحسب . و في المقابل يبقى تفاعل هذه البلدان مع المحيطين الداخلي – داخل الدولة – و الخارجي – المحيط الدولي – من أهم عوامل نجاح الإدارة ، إضافة إلى تقوية قدرات هذه الدول على استيعاب التطورات الحاصلة و بلغة أخرى التأقلم و التكيف مع ميكانيزمات التغير.
ويصبح الفساد أسطورة و ليست الإدارة ، و عمليات تحسين الإدارة واقعا و حقيقة . انطلاقا من آليات التغيير و صولا إلى المرامي المبتغاة من التنمية .
خمس أساطير كبرى في الإدارة و الاقتصاد .
قبل الخوض في تفاصيل هذه الأساطير نبدأ في التعرف على مدلولات الأسطورة من حيث المصطلح و المفهوم ، فقد جاء في المعجم الفلسفي للدكتور جميل صليبا : "الأسطورة في اللغة هي الحديث الذي لا أصل له ، يقال : إن هذا إلا أساطير الأولين .
و للأسطورة عدة معان و هي :
1- الأسطورة قصة خيالية ذات أصل شعبي تمثل فيها قوى الطبيعة بأشخاص يكون لأفعالهـــم و مغامراتهم معان رمزية ، كالأساطير اليونانية التي تفسر حدوث ظواهر الكون و الطبيعة بتأثير آلهة متعددة – أو هي حديث خرافي يفسر معطيات الواقع الفعلي ، و أسطورة الجنة المفقودة .
2- الأسطورة هي الصورة الشعرية الروائية التي تعبر عن المذاهب الفلسفية بأسلوب رمزي يختلط فيه الوهم بالحقيقة ...
3- و تطلق الأسطورة أيضا على صورة المستقبل الوهمي الذي يعبر عن عواطف النــــــــاس و ينفع في حملهم على أداء الفعل ...
و قصارى القول : أن الأساطير تتضمن وصفا لأفعال الآلهة ، أو للحوادث الخارقة ، و هي تختلف باختلاف الأمم ، فلكل أمة أساطيرها ، و لكل شعب خرافاته الموضوعة للتعليم أو التسلية ، وقد قيل أن الأسطورة هي التعبير عن الحقيقة بلغة الرمز المجاز ".
فما هي أساطير الإدارة و الاقتصاد إذا :
- الأسطورة 1: أن الإدارة و الاقتصاد يرتبطان بالفساد :
- التنظيم و الإدارة ليست فقط مجرد هياكل إنما هي تقاليد و مؤسسات تمارس بها السلطة في بلد ما من أجل الصالح العام ، ويشمل ذلك العملية التي يتم بموجبها اختيار القائمين على السلطة و مراقبتهم و استبدالهم – البعد السياسي – و قدرة الحكومة على إدارة مواردها بفاعلية و تنفيذ سياسات سليمة – البعد الاقتصادي- و احترام المواطنين و الدولة لمؤسسات البلد - البعد المؤسسي - ومن هنا تكون الإدارة الراشدة هي الأقرب إلى خدمة الصالح العام و لكن التحدي الكبير الذي يواجهها هو الفساد و الذي يعرّف على أنه إساءة استعمال المنصب العام لتحقيق كسب خــــــاص و استغلال المسئولية أو النفوذ لتحقيق مكاسب خاصة و من هنا أصبحت مؤشرات الفساد تتزايد من يوم لآخر في البلدان الأكثر تخلفا مقارنة بالدول المتقدمة ، و قد قامت الهيئات المختصة و منها البنك العالمي بقياس مؤشرات لمعرفة مدى استفحال الفساد في مجموعة كبيرة من دول العالم و هذه المقاييس قابلة للمقارنة دوليا و تقوم على معايير موضوعية و قد شملت قرابة 200 دولة ، بناء على أكثر من 250 متغيرا تم الحصول عليها من مؤسسات و أجهزة مختلفة و من أهم هذه المؤشرات : القدرة على التعبير عن الرأي ، و الخضوع للمساءلة ، و الاستقرار السياسي ، و غياب أعمال العنف و الإرهاب الكبرى ، فعالية الحكومة ، الجودة التنظيمية ، سيادة القانون ، الحد من الفساد .
لكن في المقابل فإن عمليات القياس الدقيقة تعترضها معضلتان رئيسيتان ، تتمثل الأولى في الدقة و المصداقية في جمع المعلومات و التقارير التي تقدمها الأجهزة المعتمدة و ذلك وصولا إلى بناء نتائج حقيقية ، فقد تتستر بعض الدوائر عن الأرقام الحقيقية لأنها متورطة في الفساد أو أنها تقدم معلومات منقوصة أو مغلوطة .
و المعضلة الثانية تتعلق بجدية بعض المصالح في إصلاح الإدارة و التنظيم الذي قد لا يأخذ مأخذ الجد لأنه يقلل من نفوذ بعض الفئات المستفيدة من هذه الوضعيات .
تأخذ هذه المؤشرات كمعايير من قبل البنك الدولي لمراقبة الأداء و إجراء التقييمات القطرية على مستوى الدول .
و إذا كان ارتباط تحسين الأداء و مكاسب التنمية مرتبط بشكل مباشر بتطوير أساليــب الإدارة و التنظيم و خاصة مع هذا الزخم الهائل من المعلوماتية و التكنولوجيات ، و شبكات المعلومات و وصولا إلى الإدارات و الحكومات الالكترونية في الدول المتقدمة ، و يعتمد هذا أساسا على قاعدة بيانات قوية تتوفر على زخم هائل من المعطيات الصحيحة ، و قد أثبتت هذه الآلية نجاعتها في قياس تقدم بعض البلدان في تحسين الاداءات الأمر الذي أدى إلى رفع غينيا الاستوائية إلى مستوى أوغندا ، و أوغندا إلى مستوى ليتوانيا و ليتوانيا إلى مستوى البرتغال ، و البرتغال إلى مستوى فنلندا . و هذا يدلل على نجاح مستويات هذه القياسات في تحسين مستويات الإدارة و التنمية .
و يرتبط ذلك بشكل آخر بالاقتصاد الجزئي و الكلي للدول من تحسين مستويات الدخـــــــــــول و المنافسة و التوزيع ..و إذا كانت مظاهر الفساد تتراوح بين الرشاوى و الاختلاســــــــــــات و التلاعبات ، و تعتبر قضية الفساد التي مست كل قطاعات و أجهزة الإدارة المالية فيما عرف بقضية آل خليفة و التي أدت إلى التلاعب بملايير الدولارات ، على حساب الاقتصاد الوطنـــــي و عجلة التنمية ، مثالا حيا ، بل استفحلت الظاهرة إلى حد اعتبار الرشوة حقا مقننا للإدارة في بعض الدول و يرقى إلى – البقشيش – الخاص . و أضحت قضايا الفساد المالي من القضايا المعتادة و التي لا تستطيع القوانين التصدي لها .
الأسطورة 2 :-أن تحسين التنظيم و الإدارة حكر على الدول المتقدمة .
إذا كانت المقارنة انطلاقا من مجموعة من المعايير ، أو على الأقل معيار الدخل القومي يتبين البون الشاسع و الفارق الضارب بين دولة مثل الولايات المتحدة التي يتجاوز دخلها القومي 9 آلاف ملايير دولار ، و دولة مثل مالي التي تصل ربما إلى 2 مليار دولار حسب إحصائيات العام 2005 .يظهر الفارق في ضخامة الاقتصاد بين الدولتين ، فإن تحسين الإدارات لا ينطلق من هذا القياس . و خاصة أن العلاقة السببية بين تطور التنمية و تطوير أساليب الإدارة قد أثبت نجاعته في الكثير من البلدان و ذلك من خلال عينات ، في العام 1996 ، انطلاقا من مجموعة من المؤشرات و منها : القدرة على التعبير عن الرأي – و الخضوع للمساءلة - في بلدان مثل البوسنة ، و كرواتيا ، و غانا ، و اندونيسيا ، و صربيا و سيراليون إضافة إلى بعض البلدان في إفريقيا قد أثبتت تقدما و في المقابل فإن بلدان مثل ساحل العاج و نيـــــــــــــــبال ، و زيمبابوي تأخرت كثيرا.
و الحقيقة أن ارتباط هذه المؤشرات بمؤشرات الديمقراطية و العقلانية و تفعيل المجتمع المدني ، و الحريات المدنية و سيادة القانون هو ارتباط مباشر و وثيق بدور الإدارة في تنظيم الحياة المؤسساتية . و العمل على إنجاح التنمية و المشاريع الفعالة في الاقتصاد .
فإذا كانت بلدان مثلما هي بلدان أمريكا الشمالية و الاتحاد الأوربي استطاعت في ضوء الاقتصاد الحر أن تحقق نموا و تطورا كبيرا عبر عقود زمنية ، فإن ظهور البيروقراطية السلبية كان أكثر استفحالا في الدول الاشتراكية مما عرقل تطور الإدارة و التنظيم و بالتالي انعكس سلبا على الاقتصاديات .
الأسطورة 3 : -محاربة الفساد بمحاربة الفساد . تتوفر مجموعة من الآليات و الوسائل المنتهجة لمحاربة الفساد والحقيقة أن الكثير من المؤسسات و مراكز الدراسات و الهيئات تشجع هذا الإجراء ، و تعمل على سن التشريعات و القوانين و إقامة لجان المحاسبة و الرقابة و شن الحملات المتتالية لمحاربة الفساد ، و لكن في المقابل لم تحقق مثل هذه النماذج تحسنا ملحوظا انطلاقا من هذه الوصفات ، و التي تنطلق من الحرب و ليس من علاج الظاهرة ، لأن استعمال هذا التكتيك أدى إلى تغيير الفئات المستفيدة من الوضع المتأزم إلى تغيير خــــططها ، و خاصة أن الكثير من هذه البلدان بها بعض النخب الحاكمة و رجالات الدولة و الجنرالات الذين استفادوا و اغتنوا في ظل هذا الوضع و هو يخدمهم بالدرجة الأولى ، و بإمكانهم التلاعب على القانون ، بل تقنين الفساد في حد ذاته . فلا تزال حسابات الكثير منهم في بنوك الخارج تثير الرهبة في القلوب بحجم الأرقام و ما وصل إليه الفساد في هذه البلدان بينما لا تزال بلدانهم تعاني الفقر و التخلف و المديونية الخانقة ، كما أن الكثير من الشركات المتعددة الجنسيات تقدم الرشاوى للكثير من المؤسسات و الإدارات لإنجاح صفقاتها و تعاملاتها مما جعل الفساد على أعلى المستويات في هذه البلدان .
و لذلك فإن العمل على تحسين الأداء الإداري و رسم إستراتيجية فاعلة للتنظيم و الإدارة انطلاقا من استراتيجيات ثقافية و اجتماعية و سياسية تؤصل لمؤسسات ديمقراطية و عقلانية فاعلة تقضي على الفساد من جذوره و تعالج الأزمة بمختلف مظاهرها و تكون الحاجة أكثر إلى إصلاحات في المنهجيات الإدارية بالدرجة الأولى ، و حتى لا تتحول محاربة الفساد إلى تصفيات حسابات سياسية مرتبطة بالآنية ، لا بالمراحل المستقبلية الآتية و تتقلب بتقلبات الظروف . غير مبنية على أسس منهجية دقيقة و مدروسة .
- الأسطورة 4 :- القطاع العام المتسبب الرئيسي في الفساد : لا يزال القطاع العام في الكثير من البلدان المتخلفة ينتهج الأساليب القديمة في التسيير و الإدارة و لا تزال البيروقراطية هي أساس العمل فيها ، ففي حديث لأحد خبراء صندوق النقد الدولي يروي قصته مع الإدارة في دولته البيرو ، عند شروعه في انجاز مشروع ورشة ، كان قد مرّ بالعديد من المؤسســــــــات و الإدارات و قطع الأميال العديدة لإتمام الإجراءات للحصول على إذن انجاز المشروع الذي قد لا ينجز في النهاية ، و بالمقابل يقارن تجربته للحصول على نفس المشروع في الولايات المتحدة و الذي لم يكلفه إلا المرور على إدارتين و بعض الوقت و الكثير من التشجيعات لإنجاح المشروع و الذي فشل في البيرو و لكنه نجح في الولايات المتحدة ، و قد أصبح هذا الاقتصادي فيما بعد من أهم الاقتصاديين في المؤسسات الدولية ، و من أهم المستشارين الاقتصاديين للحكومة الأمريكية ، و الحقيقة أن أخذ هذه العينة يدلل على مدى تسبب القطاعات العامة في الكثير من البلدان العالم ثالثية في فشل التنمية الاقتصادية فيها مقابل تحقيق القطاعات الخاصة لتحسن في مستويات الإدارة ، و عادة ما تستحوذ بعض الفئات المستفيدة من القطاع العام على مقاليد الإدارة لتحقيق مصالحها الخاصة و لو كان على حساب التنمية العامة و المصالح العامة للدولة مما يدلل على أن الخلل ليس في القطاع العام في حد ذاته إنما من المستفيدين من الفساد فيه و تكريس سلطتهم .
الأسطورة 5 :- الدولة عاجزة على تحسين الادارة و التسيير : أثبتت بعض التجارب أن الدول غير قادرة على تحقيق تطور في مجالات الإدارة من حيث التدخلات ، و ذلك أن هذا التطور لا يتم بمنأى عن المجتمع و السياسة ، و لذا فإن رسم استراتيجيات ثقافية و اجتماعية و تفعيل الأدوار البنيوية و الوظيفية للدولة يكون أقرب إلى تحقيق هذا التطور ، لقد استطاعت بلدان في جنوب شرق آسيا انطلاقا من تجربة الهندسة العكسية في الصناعة إلى تحقيق فوائض مالـــية و إقامة بنى تحتية و فوقية لاقتصادياتها أن تحقق نموا متزايدا و تطورا مطردا في الاقتــــــصاد و السياسة و منها كوريا الجنوبية و سنغافورة و هونغ كونغ و غيرها من الدول التي خلقت قاعدة صناعية قوية و إدارة محكمة تقوم بعمليات التنظيم الفاعلة و الواسعة ..
و تنطلق عمليات الإصلاح من الشفافية و الفعالية مقترنة ببقية المؤشرات من حريات التعــبير و الديمقراطية و حقوق المرأة و الإصلاحات و التي تحقق تقدما متوازيا مع تطــــــــور الإدارة و التنظيم ، فالعملية كل متكامل ينطلق من الجزء إلى الكل و من الكل إلى الجزء في مستويات عمودية و أفقية من التنمية الثقافية و الاجتماعية و السياسية إلى التنمية الاقتصادية .
في المقابل فإن دور المؤسسات الدولية يكون فاعلا في عمليات التنمية نظرا لدخول العالم لعصر العولمة و ضرورة شعور الحكومات بنوع من الالتزامات الدولية و الرقابة من قبل هذه المؤسسات و الهيئات ، و خاصة إذا ما تكفلت بعمليات الدعم و المشاركة بالخبرات لإصلاح المؤسسات و الإدارات المستهدفة من حيث الجانب العملي و ليس النظري فحسب . و في المقابل يبقى تفاعل هذه البلدان مع المحيطين الداخلي – داخل الدولة – و الخارجي – المحيط الدولي – من أهم عوامل نجاح الإدارة ، إضافة إلى تقوية قدرات هذه الدول على استيعاب التطورات الحاصلة و بلغة أخرى التأقلم و التكيف مع ميكانيزمات التغير.
ويصبح الفساد أسطورة و ليست الإدارة ، و عمليات تحسين الإدارة واقعا و حقيقة . انطلاقا من آليات التغيير و صولا إلى المرامي المبتغاة من التنمية .
:: الفئة الأولى :: الفئة الثانية :: مقالات
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى